فصل: تفسير الآيات رقم (138- 140)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

‏{‏وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ‏(‏125‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذ جعلنا البيت‏}‏ يعني البيت الحرام، وهو الكعبة ويدخل فيه الحرم فإن الله تعالى وصفه بكونه آمناً وهذه صفة جميع الحرم ‏{‏مثابة للناس‏}‏ أي مرجعاً من ثاب يثوب إذا رجع، والمعنى يثوبون إليه من كل جانب يحجونه ‏{‏وأمناً‏}‏ أي موضعاً ذا أمن من يؤمنون فيه من أذى المشركين فإنهم كانوا لا يتعرضون لأهل مكة‏:‏ ويقولون‏:‏ هم أهل الله‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ معاذاً وملجأ ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة‏.‏ «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه فقال العباس‏:‏ يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم فقال‏:‏ إلا الإذخر» معنى الحديث‏:‏ أنه لا يحل لأحد أن ينصب القتال والحرب في الحرم وإنما أحل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فقط ولا يحل لأحد بعده‏.‏ قوله‏:‏ لا يعضد شوكه أي لا يقطع شوك الحرم وأراد به ما لا يؤذي منه أما ما يؤذي منه كالعوسج فلا بأس بقطعه‏.‏ قوله‏:‏ ولا ينفر صيده أي لا يتعرض له بالاصطياد ولا يهاج‏.‏ قوله‏:‏ ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها أي ينشدها‏.‏ والنشد رفع الصوت بالتعريف‏.‏ واللقطة في جميع الأرض لا تحل إلا لمن يعرفها حولاً فإن جاء صاحبها أخذها‏.‏ وإلا انتفع بها الملتقط بشرط الضمان‏.‏ وحكم مكة في اللقطة أن يعرفها على الدوام بخلاف غيرها من البلاد فإنه محدود بسنة‏.‏ قوله‏:‏ ولا يختلى خلاه‏.‏ الخلي مقصور الرطب من النبات الذي يرعى وقيل‏:‏ هو اليابس من الحشيش وخلاه قطعه‏.‏ وقول‏:‏ لقينهم القين الحداد وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏}‏ قيل‏:‏ الحرم كله مقام إبراهيم، وقيل‏:‏ أراد بمقام إبراهيم جميع مشاهد الحج مثل عرفة والمزدلقة والرمي وسائر المشاهد، والصحيح أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عند الأئمة، وذلك الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه عند بناء البيت، وقيل‏:‏ كان أثر أصابع رجلي إبراهيم عليه السلام فيه فاندرست بكثرة المسح بالأيدي وقيل‏:‏ إنما أمروا بالصلاة عنده ولم يؤمروا بمسحه وتقبيله ‏(‏ق‏)‏ عن أنس بن مالك قال قال عمر‏:‏ «وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى فنزلت‏:‏ ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى‏}‏ الحديث‏.‏ وكان بدء قصة المقام على ما رواه البخاري في صحيحه، عن ابن عباس قال‏:‏ أول ما اتخذت النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحه فوق زمزم من أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد ليس بها ماء فوضعهما هناك، وضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفى إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل‏.‏

فقالت‏:‏ يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء فقالت له‏:‏ ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها فقالت له‏:‏ الله أمرك بهذا قال‏:‏ نعم قالت إذا لا يضيعنا ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات فرفع يديه وقال ربنا‏:‏ إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع حتى بلغ يشكرون وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت، وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال‏:‏ يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً فهبطت من الصفا حتى بلغت الوادي، ورفعت طرف درعها وسعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها، فنظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرات‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك سعى الناس بينما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت‏:‏ صه تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت أيضاً فقالت يا من قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتقول‏:‏ بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم، أو قال‏:‏ لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً‏.‏ قال‏:‏ فشربت وأرضعت ولدها‏.‏ فقال‏:‏ لها الملك لا تخافي الضيعة، فإن ها هنا بيتاً لله يبينه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمنيه وعن شماله فكانت كذلك، حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً، فقالوا‏:‏ إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا‏:‏ أتأذنين لنا أن ننزل عندك قالت‏:‏ نعم ولكن لا حق لكم في الماء قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم فألقى ذلك أم إسماعيل، وهي تحب الأنس فأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كانوا بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وآنسهم وأعجبهم حيث شب فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه، فقالت‏:‏ خرج يبتغي لنا وفي رواية ذهب يصيد لنا ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت‏:‏ نحن بشر نحن في ضيق وشدة وشكت إليه فقال إذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام وقولي له‏:‏ يغير عتبة بابه فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً فقال‏:‏ هل جاءكم من أحد‏؟‏ قالت‏:‏ نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد، وشدة فقال‏:‏ هل أوصاك بشيء قالت‏:‏ نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول لك غير عتبة بابك قال ذلك أبي، وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك فطلقها، وتزوج منهم أخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثم أتاهم بعد فلم يجده فدخل على امرأته فسأل عنه‏.‏ فقالت‏:‏ خرج يبتغي لنا، قال‏:‏ كيف أنتم وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت‏:‏ نحن بخير وسعة وأثنت على الله عز وجل فقال‏:‏ وما طعامكم‏؟‏ قالت اللحم قال‏:‏ وما شرابكم قالت‏:‏ الماء قال‏:‏ اللهم بارك لهم في اللحم والماء قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم حب دعا لهم فيه، قال‏:‏ فهما لا يخلو عليما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه وفي رواية فجاء فقال‏:‏ أين إسماعيل‏؟‏ فقالت امرأته‏:‏ قد ذهب يصيد، فقالت امرأته‏:‏ ألاّ تنزل عندنا فتطعم وتشرب‏.‏ قال‏:‏ وما طعامكم وشرابكم قالت‏:‏ طعامنا اللحم وشرابنا الماء قال اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم‏.‏ قال‏:‏ فقال أبو القاسم بركة دعوة إبراهيم‏.‏ قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه أن يثبت عتبة بابه فلما جاء إسماعيل قال‏:‏ هل أتاكم من أحد‏؟‏ قالت‏:‏ نعم أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا‏؟‏ فأخبرته أنا بخير قال فأوصاك بشيء قالت‏:‏ نعم يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك فقال‏:‏ ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال‏:‏ يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر قال‏:‏ فاسمع ما أمرك ربك‏.‏ قال‏:‏ وتعينني قال وأعينك قال‏:‏ فإن الله أمرني أن أبني بيتاً هنا هنا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها فعند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاءه بهذا الحجر فوضعه له، فقام إبراهيم عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان‏:‏ ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم‏:‏ وفي رواية حتى إذا ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة فقام على حجر المقام، فجعل يناوله الحجارة ويقولان‏:‏ ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وقيل‏:‏ إن امرأة إسماعيل قالت لإبراهيم‏:‏ انزل اغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بالمقام فوضعته عند شقه الأيمن، فوضع قدمه عليه فغسلت شق رأسه الأيمن ثم حولته إلى شقه الأيسر فغسلت شق رأسه الأيسر فبقي أثر قدميه عليه‏.‏

عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاء ما بين المشرق والمغرب» أخرجه الترمذي‏.‏ وقال هذا يروى عن ابن عمر موقوفاً‏.‏ واختلفوا في قوله‏:‏ مصلى فمن فسر المقام بمشاهد الحج ومشاعره قال مصلّى قبلة، أمروا بالصلاة عنده وهذا القول هو الصحيح، لأن لفظ الصلاة إذا أطلق لا يعقل منه إلا الصلاة المعهودة ذات الركوع والسجود، ولأن مصلى الرجل هو الموضع الذي يصلي فيه ‏{‏وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل‏}‏ أي أمرناهما وألزمناهما وأوجبنا عليهما‏.‏ قيل‏:‏ إنما سمي إسماعيل لأن إبراهيم كان يدعو الله أن يرزقه ولداً، ويقول في دعائه‏:‏ اسمع يا إيل وإيل بلسان السريانية هو الله‏.‏ فلما رزق الولد سماه به ‏{‏أن طهرا بيتي‏}‏ يعني الكعبة أضافه إليه تشريفاً وتفضيلاً وتخصيصاً، أي ابنياه على الطهارة والتوحيد، وقيل طهراه من سائر الأقذار والأنجاس، وقيل طهراه من الشرك والأوثان وقول الزور ‏{‏للطائفين‏}‏ يعني الدائرين حوله ‏{‏والعاكفين‏}‏ يعني المقيمين به والمجاوزين له ‏{‏والركع السجود‏}‏ جمع راكع وساجد وهم المصلون وقيل‏:‏ الطائفين يعني الغرباء الواردين إلى مكة والعاكفين يعني أهل مكة المقيمين بها‏.‏ قيل‏:‏ إن الطواف للغرباء أفضل والصلاة لأهل مكة بمكة أفضل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏126‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا‏}‏ إشارة إلى مكة وقيل إلى الحرم ‏{‏بلداً آمناً‏}‏ أي ذا أمن يأمن فيه أهله، وإنما دعا إبراهيم له بالأمن لأنه بلد ليس فيه زرع ولا ثمر فإذا لم يكن آمناً، لم يجلب إليه شيء من النواحي فيتعذر المقام به‏.‏ فأجاب الله تعالى دعاء إبراهيم وجعله بلداً آمناً، فما قصده جبار إلا قصمه الله تعالى كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم من الجبابرة‏.‏ فإن قلت‏:‏ قد غزا مكة الحجاج وخرب الكعبة‏.‏ قلت لم يكن قصده بذلك مكة ولا أهلها ولا إخراب الكعبة، وإنما كان قصده خلع ابن الزبير من الخلافة ولم يتمكن من ذلك إلا بذلك فلما حصل قصده أعاد بناء الكعبة فبناها وشيدها وعظم حرمتها وأحسن إلى أهلها‏.‏ واختلفوا هل كانت مكة محرمة قبل دعوة إبراهيم عليه السلام أو حرمت بدعوته على قولين‏:‏ أحدهما أنها كانت محرمة قبل دعوته بدليل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض» وقول إبراهيم عليه السلام‏:‏ «إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم» فهذا يقتضي أن مكة كانت محرمة قبل دعوة إبراهيم‏.‏ القول الثاني‏:‏ أنها إنما حرمت بدعوة إبراهيم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة» وهذا يقتضي أن مكة كانت قبل دعوة إبراهيم حلالاً كغيرها من البلاد، وإنما حرمت بدعوة إبراهيم، ووجه الجمع بين القولين وهو الصواب أن الله تعالى حرم مكة يوم خلقها كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض» ولكن لم يظهر ذلك التحريم على لسان أحد من أنبيائه ورسله، وإنما كان تعالى يمنعها ممن أرادها بسوء، ويدفع عنها وعن أهلها الآفات والعقوبات فلم يزل ذلك من أمرها حتى بوأها الله تعالى إبراهيم وأسكن بها أهله فحينئذ سأل إبراهيم ربه عز وجل أن يظهر التحريم مكة لعباده على لسانه فأجاب الله تعالى دعوته، وألزم عباده تحريم مكة فصارت مكة حراماً بدعوة إبراهيم، وفرض على الخلق تحريمها والامتناع من استحلالها واستحلال صيدها وشجرها فهذا وجه الجمع بين القولين وهو الصواب، والله أعلم ‏{‏وارزق أهله من الثمرات‏}‏ إنما سأل إبراهيم ذلك لأن مكة لم يكن لها زرع ولا ثمر فاستجاب الله تعالى له وجعل مكة حرماً آمناً يجبي إليه ثمرات كل شيء ‏{‏من آمن منهم بالله واليوم الآخر‏}‏ يعني ارزق المؤمنين من أهله خاصة‏.‏ وسبب هذا التخصيص أن إبراهيم عليه السلام لما سأل ربه عز وجل أن يجعل النبوة والإمامة في ذريته فأجابه الله بقوله‏:‏ ‏{‏لا ينال عهدي الظالمين‏}‏ صار ذلك تأديباً له في المسألة، فلا جرم خص ها هنا بدعائه المؤمنين دون الكافرين ثم أعلمه أن الرزق في الدنيا يستوي فيه المؤمن والكافر بقوله‏:‏ ‏{‏قال ومن كفر فأمتعه‏}‏ أي سأرزق الكافر أيضاً ‏{‏قليلاً‏}‏ أي في الدنيا إلى منتهى أجله وذلك قليل لأنه ينقطع ‏{‏ثم أضطره إلى عذاب النار‏}‏ أي ألجئه وأكرهه وأدفعه إلى عذاب النار، والمضطر هو الذي لا يملك لنفسه الامتناع مما اضطر إليه ‏{‏وبئس المصير‏}‏ أي وبئس المكان الذي يصير إليه الكافر وهو العذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏127‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل‏}‏ وكانت قصة بناء البيت على ما ذكره العلماء، وأصحاب السير أن الله تعالى خلق موضع البيت قبل أن يخلق الأرض بألفي عام فكانت زبدة بيضاء على وجه الماء، فدحيت الأرض من تحتها فلما أهبط الله آدم إلى الأرض استوحش فشكا إلى الله تعالى، فأنزل البيت المعمور وهو من ياقوته من يواقيت الجنة له بابان من زمرد أخضر باب شرقي، وباب غربي فوضعه على موضع البيت، وقال يا آدم إني أهبطت لك بيتاً تطوف به كما يطاف حول عرشي، وتصلي عنده كما يصلي عند عرشي وأنزل الله عليه الحجر الأسود، وكان أبيض فاسودّ من مس الحيض في الجاهلية فتوجه آدم من الهند ماشياً إلى مكة، وأرسل الله إليه ملكاً يدله على البيت فحج آدم وأقام المناسك، فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا له برّ حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه فكان على ذلك إلى أيام الطوفان فرفعه الله إلى السماء الرابعة، وهو البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه، وبعث الله جبريل حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له، من الغرق فكان موضع البيت خالياً إلى زمن إبراهيم عليه السلام‏.‏ ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم بعد ما ولد له إسماعيل وإسحاق ببناء بيت يذكر فيه ويعبد فسأل الله أن يبين له موضعه، فبعث الله السكينة لتدله على موضع البيت وهي ريح خجوج لها رأسان تشبه الحية، والخجوج من الرياح هي الشديدة السريعة الهبوب وقيل‏:‏ هي المتلوية في هبوبها، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة فتبعها إبراهيم، حتى أتت موضع البيت فتطوقت عليه كتطويق الحجفة، وقال ابن عباس‏:‏ بعث الله سبحانه وتعالى سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير، وإبراهيم يمشي في ظلها إلى أن وقفت على موضع البيت، ونودي منها يا إبراهيم ابن على قدر ظلها لا تزد ولا تنقص‏.‏ وقيل‏:‏ إن الريح كنست له ما حول الكعبة حتى ظهر له أساس البيت الأول فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت‏}‏ فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت فكان إبراهيم يبنيه، وإسماعيل يناوله الحجارة فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت‏}‏ جمع قاعدة وهي أس البيت‏.‏ وقيل جدرة من البيت‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ بنى إبراهيم البيت من خمسة أجبل‏:‏ من طور سيناء وطور زيتا ولبنان جبل بالشام والجودي جبل بالجزيرة، وبنى قواعده من حراء جبل بمكة فلما انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود قال لإسماعيل‏:‏ ائتني بحجر حسن يكون للناس علماً فأتاه بحجر فقال ائتني بأحسن منه فمضى إسماعيل ليطلب حجراً أحسن منه فصاح أبو قبيس‏:‏ يا إبراهيم إن لك عندي وديعة فخذها فقذف بالحجر الأسود فأخذه إبراهيم فوضعه مكانه وقيل‏:‏ إن الله أمد إبراهيم وإسماعيل بسبعة أملاك يعينونهما في بناء البيت فلما فرغا من بنائه قالا‏:‏ ‏{‏ربنا تقبل منا‏}‏ وفي الآية إضمار تقديره ويقولان ربنا تقبل منا أي ما عملنا لك، وتقبل طاعتنا إياك وعبادتنا لك ‏{‏إنك أنت السميع‏}‏ أي لدعائنا ‏{‏العليم‏}‏ يعني بنياتنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏128- 129‏]‏

‏{‏رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏128‏)‏ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏129‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ربنا واجعلنا مسلمين لك‏}‏ يعني موحدين مخلصين مطيعين خاضعين لك‏.‏ فإن قلت‏:‏ الإسلام إما أن يكون المراد منه الدين والاعتقاد أو الاستسلام والانقياد وقد كانا كذلك حالة هذا الدعاء فيما فائدة هذا الطلب‏؟‏ قلت فيه وجهان أحدهما أن الإسلام عرض قائم بالقلب وقد لا يبقى، فقوله‏:‏ واجعلنا مسلمين لك يعني في المستقبل وذلك لا ينافي حصوله في الحال‏.‏ الوجه الثاني يحتمل أن يكون المراد منه طلب الزيادة في الإيمان فكأنهما طلبا زيادة اليقين والتصديق وذلك لا ينافي حصوله في الحال ‏{‏ومن ذريتنا‏}‏ أي من أولادنا ‏{‏أمة‏}‏ أي جماعة ‏{‏مسلمة‏}‏ أي خاضعة منقادة ‏{‏لك‏}‏ وإنما أدخل من التي هي للتبعيض لأن الله تعالى أعلمهما بقوله‏:‏ ‏{‏لا ينال عهدي الظالمين‏}‏ إن في ذريتهما الظالم فلهذا خص بعض الذرية بالدعاء‏.‏ فإن قلت‏:‏ لم خص ذريتهما بالدعاء‏.‏ قلت‏:‏ لأنهم أحق بالشفقة والنصيحة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قوا أنفسكم وأهليكم ناراً‏}‏ ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم ألا ترى أن المتقدمين من العلماء والكبراء‏:‏ إذا كانوا على السداد كيف يتسببون لسداد من وراءهم‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وابعث فيهم رسولاً منهم‏}‏ ‏{‏وأرنا‏}‏ أي علمنا وبصرنا ‏{‏مناسكنا‏}‏ أي شرائع ديننا وأعلام حجنا، وقيل‏:‏ مناسكنا يعني مذابحنا والنسك الذبيحة، وقيل متعبداتنا وأصل النسك العبادة والناسك العابد فأجاب الله دعاءهما وبعث جبريل فأراهما المناسك في يوم عرفة فلما بلغ عرفات قال‏:‏ عرفت يا إبراهيم‏.‏ قال إبراهيم‏:‏ نعم فسمي ذلك الوقت عرفة والموضع عرفات ‏{‏وتب علينا‏}‏ أي تجاوز عنا ‏{‏إنك أنت التواب‏}‏ أي المتجاوز عن عباده ‏{‏الرحيم‏}‏ بهم واحتج بقوله «وتب علينا» من جوز الذنوب على الأنبياء‏.‏ ووجهه أن التوبة لا تطلب من الله إلاّ بعد تقدم الذنب فلو لا تقدم الذنب لم يكن لطلب التوبة وجه‏.‏ وأجيب عنه بأن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه عز وجل فإنه لا ينفك عن تقصير في بعض الأقات‏.‏ أما على سبيل السهو أو ترك الأولى والأفضل، وكان هذا الدعاء لأجل ذلك، وقيل‏:‏ يحتمل أن الله تعالى لما أعلم إبراهيم أن في ذريته من ظالم فلا جرم سأل ربه التوبة لأولئك الظلمة، والمعنى وتب على الظلمة من أولادنا حتى يرجعوا إلى طاعتك فيكون ظاهر الكلام الدعاء لأنفسهما والمراد به ذريتهما‏.‏ وقيل‏:‏ يحتمل أنهما لما رفعا قواعد البيت وكان ذلك أحرى الأماكن بالإجابة دعوا الله بذلك الدعاء ليجعلا ذلك سنة وليقتدى من بعدهما في ذلك الدعاء لأن ذلك المكان هو موضع التنصل من الذنوب وسؤال التوبة والمغفرة من الله تعالى‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم‏}‏ يعني وابعث في الأمة المسلمة أو الذرية وهم العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام‏.‏

وقوله‏:‏ رسولاً منهم يعني ليدعوهم إلى الإسلام ويكمل الدين والشرع‏.‏ وإذا كان الرسول منهم يعرفون نسبه ومولده ومنشأه كان أقرب لقبول قوله ويكون هو أشفق عليهم من غيره، وأجمع المفسرون على أن المراد به بقوله «رسولاً منهم» هو محمد صلى الله عليه وسلم لأن إبراهيم عليه السلام إنما دعا لذريته وهو بمكة ولم يبعث من ذريته بمكة غير محمد صلى الله عليه وسلم فدل على أن المراد به محمد صلى الله عليه وسلم وروى البغوي بإسناده عن العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إني عند الله مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته وسأخبركم بأول أمري أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني، وقد خرج لها نور ساطع أضاءت لها منه قصور الشام» وقوله‏:‏ لمنجدل في طينته معناه أنه مطروح على وجه الأرض صورة من طين لم تجر فيه الروح وأراد بدعوة إبراهيم قوله‏:‏ ‏{‏ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم‏}‏، فاستجاب الله دعاء إبراهيم وبعث محمداً صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان وأنقذهم به من الكفر والظلم وأراد ببشارة عيسى عليه السلام قوله في سورة الصف‏:‏ ‏{‏ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد‏}‏ ‏{‏يتلو عليهم‏}‏ أي يقرأ عليهم ‏{‏آياتك‏}‏ يعني ما توحيه إليه وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لأن الذي كان يتلوه عليهم هو القرآن فوجب حمله عليه ‏{‏ويعلمهم الكتاب‏}‏ يعني معاني الكتاب وحقائقه لأن المقصود الأعظم تعليم ما في القرآن من دلائل التوحيد والنبوة والأحكام الشرعية فلما ذكر الله تعالى أولاً أمر التلاوة، وهي حفظ القرآن ودراسته ليبقى مصوناً عن التحريف، والتبديل ذكر بعده تعليم حقائقه وأسراره ‏{‏والحكمة‏}‏ أي ويعلمهم الحكمة وهي الإصابة في القول والعمل ولا يسمى الرجل حكيماً إلاّ إذا اجتمع فيه الأمران‏.‏ وقيل‏:‏ الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ وذلك إنما يكون بما ذكرناه من الإصابة في القول والعمل ووضع كل شيء موضعه، وقيل الحكمة معرفة الأشياء بحقائقها‏.‏ واختلف المفسرون في المراد بالحكمة ها هنا فروى ابن وهب قال‏:‏ قلت لمالك ما الحكمة‏.‏ قال‏:‏ المعرفة بالدين والفقة فيه والاتباع هل‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الحكمة هي السنة وذلك لأن الله تعالى ذكر تلاوة الكتاب وتعليمه ثم عطف عليه الحكمة فوجب أن يكون المراد بها شيئاً آخر وليس ذلك إلاّ السنة‏.‏ وقيل الحكمة‏:‏ هي العلم بأحكام الله تعالى التي لا يدرك علمها إلاّ ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم والمعرفة بها منه‏.‏ وقيل الحكمة‏:‏ هي الفصل بين الحق والباطل‏.‏ وقيل‏:‏ هي معرفة الأحكام والقضاء وقيل‏:‏ هي فهم القرآن، والمعنى ويعلمهم ما في القرآن من الأحكام والحكمة وهي ما فيه من المصالح الدينية والأحكام الشرعية‏.‏

وقيل‏:‏ كل كلمة وعظتك أودعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة ‏{‏ويزكيهم‏}‏ أي ويطهرهم من الشرك وعبادة الأوثان، وسائر الأرجاس والرذائل والنقائص، وقيل‏:‏ يزكيهم من التزكية أي يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة، إذا شهدوا للأنبياء بالبلاغ ثم ختم إبراهيم الدعاء بالثناء على الله تعالى فقال ‏{‏إنك أنت العزيز‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ العزيز الذي لا يوجد مثله‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي يقهر ولا يقهر وقيل هو المنيع الذي لا تناله الأيدي، وقيل العزيز القوي والعزة القوة من قولهم أرض عزاز أي صلبة قوية ‏{‏الحكيم‏}‏ أي العالم الذي لا تخفى عليه خافية، وقيل هو العالم بالأشياء وإيجادها على غاية الإحكام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130- 131‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏130‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏131‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلاّ من سفه نفسه‏}‏ سبب نزول هذه الآية أن عبدالله بن سلام دعا ابني أخيه إلى الإسلام مهاجراً وسلمة، وقال لهما‏:‏ قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة إني باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد فمن آمن به فقد اهتدى، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم فأنزل الله تعالى‏:‏

‏{‏ومن يرغب عن ملة إبراهيم‏}‏ أي يترك دينه وشريعته، وفيه تعريض باليهود والنصارى ومشركي العرب لأن اليهود والنصارى يفتخرون بالانتساب إلى إبراهيم والوصلة إليه، لأنهم من بني إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، والعرب يفتخرون به لأنهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم وإذا كان كذلك كان إبراهيم هو الذي طلب بعثة هذا الرسول في آخر الزمان فمن رغب عن الإيمان بهذا الرسول الذي هو دعوة إبراهيم فقد رغب عن ملة إبراهيم ومعنى يرغب عن ملة إبراهيم أي يترك دينه وشريعته يقال‏:‏ رغب في الشيء إذا أراده ورغب عنه إذا تركه إلاّ من سفه نفسه قال ابن عباس‏:‏ خسر نفسه وقيل‏:‏ أهلك نفسه وقيل‏:‏ امتهنها واستخف بها وأصل السفه الخفة‏.‏ وقيل‏:‏ الجهل وضعف الرأي فكل سفيه جاهل لأن من عبد غير الله فقد جهل نفسه لأنه لم يعترف بأن الله خالقها وقد جاء «من عرف نفسه فقد عرف ربه» ومعناه‏:‏ أن يعرف نفسه بالذل والعجز والضعف والفناء، ويعرف ربه بالعز والقدرة والقوة والبقاء ويدل على هذا أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام اعرف نفسك واعرفني قال‏:‏ يا رب وكيف أعرف نفسي وكيف أعرفك‏؟‏ قال‏:‏ اعرف نفسك بالعجز والضعف والفناء واعرفني بالقوة والقدرة والبقاء ‏{‏ولقد اصطفيناه‏}‏ أي اخترناه ‏{‏في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين‏}‏ يعني الفائزين وقيل‏:‏ مع الأنبياء في الجنة ‏{‏إذ قال له ربه أسلم‏}‏ أي استقم على الإسلام واثبت عليه لأنه كان مسلماً لأن الأنبياء إنما نشؤوا على الإسلام والتوحيد، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ قال له ذلك حين خرج من السرب وذلك عند استدلاله بالكواكب والشمس والقمر واطلاعه على أمارات الحدوث فيها، وافتقارها إلى محدث مدبر فلما عرف ذلك قال له ربه‏:‏ أسلم ‏{‏قال أسلمت لرب العالمين‏}‏ اي قال إبراهيم‏:‏ خضعت بالطاعة وأخلصت العبادة لمالك الخلائق ومدبرها ومحدثها‏.‏ وقيل‏:‏ معنى أسلم أخلص دينك وعبادتك لله واجعلها سليمة‏.‏ وقيل‏:‏ الإيمان من صفات القلب والإسلام من صفات الجوارح وإن إبراهيم كان مؤمناً بقلبه عارفاً بالله فأمره الله أن يعمل بجوارحه وقيل‏:‏ معناه أسلم نفسك إلى الله تعالى وفوض أمرك إليه‏.‏ قال‏:‏ أسلمت أي فوضت أمري لرب العالمين‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ وقد حقق ذلك حيث لم يستعن بأحد من الملائكة حين ألقي في النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏132- 135‏]‏

‏{‏وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏132‏)‏ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏133‏)‏ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏134‏)‏ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏135‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ووصى بها إبراهيم بنيه‏}‏ يعني بكلمة الإخلاص، وهي لا إله الاّ الله‏.‏ وقيل هي الملة الحنيفية وكان لإبراهيم ثمانية أولاد إسماعيل وأمه هاجر القبطية وإسحاق وأمه سارة ومدين ومدان ويقنان وزمران وشيق وشوخ وأمهم قطورا بنت يقطن الكنعانية تزوجها إبراهيم حين وفاة سارة، فإن قلت، لم قال‏:‏ وصى بها إبراهيم بنيه ولم يقل أمرهم‏؟‏‏.‏ قلت‏:‏ لأن لفظ الوصية أوكد من لفظ الأمر لأن الوصية إنما تكون عند الخوف من الموت وفي ذلك الوقت يكون احتياط الإنسان لولده أشد وأعظم، وكانوا هم إلى قبول وصيته أقرب وإنما خص بنيه بهذه الوصية لأن شفقة الرجل على بنيه أكثر من شفقته على غيرهم‏.‏ وقيل‏:‏ لأنهم كانوا أئمة يقتدى بهم فكان صلاحهم صلاحاً لغيرهم ‏{‏ويعقوب‏}‏ أي ووصى يعقوب بمثل ما وصي به إبراهيم، وسمي يعقوب لأنه هو والعيص كانا توأمين في بطن واحد فتقدم العيص وقت الولادة في الخروج من بطن أمه وخرج يعقوب على أثره آخذاً بعقبه قال ابن عباس‏:‏ وقيل سمي لكثرة عقبه وكان له من الولد اثنا عشر وهم‏:‏ روبيل وشمعون ولاوى ويهوذا وربالون ويشجرودان ونفتالى وجاد وآشر ويوسف وبنيامين، ثم خاطب يعقوب بنيه فقال ‏{‏يا بني إن الله اصطفى لكم الدين‏}‏ أي اختار لكم دين الإسلام ‏{‏فلا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون‏}‏ أي مؤمنون مخلصون فالمعنى دوموا على إسلامكم حتى يأتيكم الموت وأنتم مسلمون لأنه لا يعلم في أي وقت يأتي الموت على الإنسان‏.‏ وقيل‏:‏ في معنى وأنتم مسلمون أي محسنون الظن بالله عز وجل يدل عليه ما روي عن جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول‏:‏ «لا يموتن أحدكم إلاّ وهو يحسن الظن بربه» أخرجاه في الصحيحين‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أم كنتم شهداء‏}‏ جمع شهيد بمعنى الحاضر أي ما كنتم حاضرين ‏{‏إذ حضر يعقوب الموت‏}‏ أي حين احتضر وقرب من الموت نزلت في اليهود، وذلك لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية فأنزل الله تعالى هذه الاية تكذيباً لهم، والمعنى أم كنتم يا معشر اليهود شهوداً على يعقوب إذ حضره الموت، أي إنكم لم تحضروا ذلك فلا تدّعوا على أنبيائي ورسلي الأباطيل وتنسبوهم إلى اليهودية فإني ما ابتعثت خليلي إبراهيم، وولده وأولادهم إلاّ بدين الإسلام، وبذلك وصوا أولادهم وبه عهدوا إليهم ثم بين ما قال يعقوب لبنيه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قال‏}‏ يعني يعقوب ‏{‏لبنيه‏}‏ يعني لأولاده الاثني عشر ‏{‏ما تعبدون‏}‏ أي أي شيء تعبدون ‏{‏من بعدي‏}‏ قيل إن الله تعالى لم يقبض نبياً حتى يخيره‏:‏ بين الحياة والموت، فلما خير يعقوب وكان قد رأى أهل مصر يعبدون الأوثان والنيران فقال انظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم فأمهله فجمع ولده وولد ولده قال لهم قد حضر أجلي من تعبدون من بعدي‏؟‏ ‏{‏قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق‏}‏ إنما قدم إسماعيل لأنه كان أكبر من إسحاق وأدخله في جملة الآباء وإن كان عماً لهم لأن العرب تسمي العم أباً والخالة أمّاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«عم الرجل صنو أبيه» وقال في عمه العباس «ردوا عليّ أبي» ‏{‏إلهاً واحداً ونحن له مسلمون‏}‏ أي مخلصون العبودية ‏{‏تلك‏}‏ إشارة إلى الأمة المذكورة، يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم ‏{‏أمة قد خلت‏}‏ أي مضت لسبيلها والمعنى يا معشر اليهود والنصارى دعوا ذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق والمسلمين من أولادهم، ولا تقولوا عليهم ما ليس فيهم ‏{‏لها ما كسبت‏}‏ يعني من العمل ‏{‏ولكم‏}‏ يعني يا معشر اليهود والنصارى ‏{‏ما كسبتم‏}‏ أي من العمل ‏{‏ولا تسألون عما كانوا يعملون‏}‏ يعني كل فريق يسأل عن عمله لا عن عمل غيره‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت في رؤساء اليهود‏:‏ كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهودا وأبي ياسر بن أخطب وفي نصارى نجران السيد، والعاقب وأصحابهما، وذلك أنهم خاصموا المؤمنين في الدين، فكل فريق منهم يزعم أنه أحق بدين الله فقالت اليهود‏:‏ نبينا موسى أفضل الأنبياء وكتابنا التوراة أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن وقالت النصارى كذلك، وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين‏:‏ كانوا على ديننا فلا دين إلاّ ذلك فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يعني يا محمد ‏{‏بل ملة إبراهيم‏}‏ يعني إذا كان لا بد من الاتباع فنتبع ملة إبراهيم لأنه مجمع على فضله ‏{‏حنيفاً‏}‏ أصله من الحنف وهو ميل واعوجاج يكون في القدم، قال ابن عباس‏:‏ الحنيف المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، قال الشاعر‏:‏

ولكنا خلقنا إذ خلقنا *** حنيفاً ديننا عن كل دين

والعرب تسمي كل من حج أو اختتن حنيفاً تنبيهاً على أنه على دين إبراهيم، وقيل‏:‏ الحنيفية الختان وإقامة المناسك مسلماً، يعني أن الحنيفية هي دين الإسلام وهو دين إبراهيم عليه السلام ‏{‏وما كان من المشركين‏}‏ يعني إبراهيم وفيه تعريض لليهود والنصارى وغيرهم ممن يدعي اتباع ملة إبراهيم وهو على الشرك، ثم علم المؤمنين طرائق الإيمان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏136- 137‏]‏

‏{‏قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏136‏)‏ فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏137‏)‏‏}‏

فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قولوا آمنا بالله‏}‏ يعني قولوا أيها المؤمنون لهؤلاء اليهود والنصارى الذين قالوا لكم‏:‏ كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا‏:‏ آمنا بالله أي صدقنا بالله ‏{‏وما أنزل إلينا‏}‏ يعني القرآن ‏{‏وما أنزل إلى إبراهيم‏}‏ يعني وآمنا بما أنزل إلى إبراهيم وهو عشر صحائف ‏{‏وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط‏}‏ وهم أولاد يعقوب الاثنا عشر واحدهم سبط وكانوا أنبياء، وقيل‏:‏ السبط هو ولد الولد وهو الحافد ومنه قيل‏:‏ للحسن والحسين سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب من بني إسماعيل وكان في الأسباط أنبياء ‏{‏وما أوتي موسى‏}‏ يعني التوراة ‏{‏وعيسى‏}‏ يعني الإنجيل ‏{‏وما أوتي النبيون من ربهم‏}‏ والمعنى آمنا أيضاً بالتوراة والإنجيل والكتب التي أوتي جميع النبيين وصدقنا أن ذلك كله حق وهدى ونور وأن الجميع من عند الله وأن جميع ما ذكر الله من أنبيائه كانوا على هدى وحق ‏{‏لا نفرق بين أحد منهم‏}‏ أي لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض وكما تبرأت اليهود من عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وأقرت ببعض الأنبياء وكما تبرأت النصارى من محمد صلى الله عليه وسلم وأقرت ببعض الأنبياء بل نؤمن بكل الأنبياء وأن جميعهم كانوا على حق وهدى ‏{‏ونحن له مسلمون‏}‏ أي ونحن لله تعالى خاضعون بالطاعة مذعنون له بالعبودية ‏(‏خ‏)‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم»‏.‏

‏{‏وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا‏}‏‏.‏ الآية‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فإن آمنوا‏}‏ يعني اليهود والنصارى ‏{‏بمثل ما آمنتم به‏}‏ أي بما آمنتم به ومثل صلة فهو كقوله‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ أي ليس مثله شيء وقيل‏:‏ فإن أتوا بإيمان كإيمانكم وتوحيد كتوحيدكم ‏{‏فقد اهتدوا‏}‏ والمعنى إن حصلوا ديناً آخر يساوي هذا الدين في الصحة، والسداد فقد اهتدوا ولكن لما استحال ان يوجد دين آخر يساوي هذا الدين في الصحة والسداد استحال الاهتداء بغيره لأن هذا الدين مبناه على التوحيد والإقرار بكل الأنبياء وما أنزل إليهم وقيل معناه فإن آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم فقد اهتدوا ‏{‏وإن تولوا‏}‏ أي أعرضوا ‏{‏فإنما هم في شقاق‏}‏ أي في خلاف ومنازعة وقيل‏:‏ في عداوة ومحاربة وقيل‏:‏ في ضلال، وأصله من الشق كأنه صار في شق صاحبه بسبب عداوته وقيل هو من المشقة لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه ويؤذيه ‏{‏فسيكفيكهم الله‏}‏ أي يكفيك الله يا محمد شر اليهود والنصارى وهو ضمان من الله تعالى لإظهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه إذا تكفلّ بشيء أنجزه وهو إخبار بغيب نفيه معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم وقد أنجز الله وعده بقتل بني قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير وضرب الجزية على اليهود والنصارى ‏{‏وهو السميع‏}‏ لأقوالهم ‏{‏العليم‏}‏ بأحوالهم يسمع جميع ما ينطقون به، ويعلم جميع ما يضمرون من الحسد، والغل وهو مجازيهم، ومعاقبهم عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏138- 140‏]‏

‏{‏صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ‏(‏138‏)‏ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ‏(‏139‏)‏ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏140‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏صبغة الله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ دين الله وإنما سماه الله صبغة لأن أثر الدين يظهر على المتدين كما يظهر أثر الصبغ على الثوب وقيل‏:‏ فطرة الله وقيل‏:‏ سنة الله وقيل‏:‏ أراد به الختان لأنه يصبغ المختتن بالدم قال ابن عباس‏:‏ إن النصارى إذا ولد لأحدهم مولود وأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم أصفر يسمونه ماء المعمودية وصبغوه به ليطهروه به مكان الختان، فإذا فعلوا ذلك به قالوا الآن صار نصرانياً حقاً، فأخبر الله أن دينه الإسلام لا ما تفعله النصارى ‏{‏ومن أحسن من الله صبغة‏}‏ أي ديناً وقيل تطهيراً لأنه يطهر من أوساخ الكفر ‏{‏ونحن له عابدون‏}‏ أي مطيعون ‏{‏قل‏}‏ يعني يا محمد لليهود والنصارى الذين قالوا إن دينهم خير من دينكم وأمروكم باتباعهم ‏{‏أتحاجوننا في الله‏}‏ أي أتخاصموننا وتجادلوننا في دين الله الذي أمرنا أن نتدين به والمحاجة المجادلة لأظهار الحجة، وذلك أنهم قالوا‏:‏ إن ديننا أقدم من دينكم وإن الأنبياء منا وعلى ديننا فنحن أولى بالله منكم، فأمر الله تعالى المؤمنين أن يقولوا لهم‏:‏ أتحاجوننا في الله ‏{‏وهو ربنا وربكم‏}‏ أي ونحن وأنتم في الله سواء فإنه ربنا وربكم ‏{‏ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم‏}‏ يعني أن لكل أحد جزاء عمله ‏{‏ونحن له مخلصون‏}‏ أي مخلصوا الطاعة والعبادة له وفيه توبيخ لليهود والنصارى والمعنى وأنتم به مشركون‏.‏ والأخلاص أن يخلص العبد دينه، وعمله لله تعالى فلا يشرك في دينه ولا يرائي بعمله، قال الفضيل بن عياض‏:‏ ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما وهذا الآية منسوخة بآية السيف‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أم تقولون‏}‏ يعني اليهود والنصارى وهو استفهام ومعناه التوبيخ ‏{‏إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى‏}‏ يعني أتزعمون أن إبراهيم وبنيه كانوا على دينكم وملتكم وإنما حدثت اليهودية والنصرانية بعدهم فثبت كذبكم يا معشر اليهود والنصارى على إبراهيم وبنيه ‏{‏قل‏}‏ يا محمد ‏{‏أأنتم أعلم‏}‏ يعني بدينهم ‏{‏أم الله‏}‏ أي الله أعلم بذلك‏.‏ وقد أخبر أن إبراهيم وبنيه لم يكونوا على اليهودية والنصرانية ولكن كانوا مسلمين حنفاء ‏{‏ومن أظلم ممن كتم‏}‏ يعني أخفى ‏{‏شهادة عنده من الله‏}‏ وهي علمهم بأن إبراهيم وبنيه كانوا مسلمين وأن محمداً أحق بنعته وصفته وجدوا ذلك في كتبهم وكتموه وجحدوه، والمعنى ومن أظلم ممن كتم شهادة جاءته من عند الله فكتمها وأخفاها ‏{‏وما الله بغافل عما تعملون‏}‏ يعني من كتمانكم الحق فيما ألزمكم به في كتابه من أن إبراهيم وبنيه كانوا مسلمين حنفاء‏.‏ وأن الدين هو الإسلام لا اليهودية والنصرانية، والمعنى وما الله غافل من عملكم بل هو محصية عليكم ثم يعاقبكم عليه في الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏141- 143‏]‏

‏{‏تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏141‏)‏ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏142‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏143‏)‏‏}‏

‏{‏تلك أمة قد خلت‏}‏ يعني إبراهيم وبنيه ‏{‏لها ما كسبت‏}‏ أي جزاء ما كسبت ‏{‏ولكم ما كسبتم‏}‏ أي جزاء ما كسبتم ‏{‏ولا تسألون عما كانوا يعملون‏}‏ يعني أن كل إنسان إنما يسأل يوم القيامة عن كسبه وعمله لا عن كسب غيره وعمله، وفيه وعظ وزجر لليهود ولمن يتكل على فضل الآباء، وشرفهم أي لا تتكلوا على فضل الآباء فكل يؤخذ بعمله وإنما كررت هذه الآية لأنه إذا اختلف مواطن الحجاج، والمجادلة حسن تكريره للتذكير به وتأكيده‏.‏ وقيل‏:‏ إنما كرره تنبيهاً لليهود لئلا يغتروا بشرف آبائهم‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏سيقول السفهاء من الناس‏}‏ أي الجهال من الناس والسفه خفة في النفس لنقصان العقل في الأمور الدينية والدنيوية، ولا شك أن ذلك في باب الدين أعظم لأن العادل عن الأمر الواضح في أمر دنياه يعد سفيهاً، فمن كان كذلك في أمر دينه، كان أولى بهذا الاسم فلا كافر إلاّ وهو سفيه ولهذا أمكن حمل هذا اللفظ على اليهود والمشركين، والمنافقين فقيل‏:‏ نزلت هذه الآية في اليهود وذلك أنهم طعنوا في تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة لأنهم لا يرون النسخ‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في مشركي مكة وذلك أنهم قالوا قد تردد على محمد أمره واشتاق مولده، وقد توجه إلى نحو بلدكم فلعله يرجع إلى دينكم وقيل نزلت في المنافقين وإنما قالوا ذلك استهزاء بالإسلام وقيل‏:‏ يحتمل أن لفظ السفهاء للعموم فيدخل فيه جميع الكفار والمافقين واليهود ويحتمل وقوع هذا الكلام من كلهم إذ لا فائدة في التخصيص، ولأن الأعداء يبالغون في الطعن والقدح فإذا وجدوا مقالاً قالوا أو مجالاً جالوا ‏{‏ما ولاهم‏}‏ يعني أي شيء صرفهم ‏{‏عن قبلتهم التي كانوا عليها‏}‏ يعني بيت المقدس، والقبلة هي الجهة التي يستقبلها الإنسان وإنما سميت قبلة لأن المصلي يقابلها وتقابله ولما قال السفهاء ذلك رد الله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد ‏{‏لله المشرق والمغرب‏}‏ يعني أن له قطري المشرق والمغرب وما بينهما ملكاً فلا يستحق شيء أن يكون لذاته قبلة لأن الجهات كلها شيء واحد، وإنما تصير قبلة لأن الله تعالى هو الذي جعلها قبلة فلا اعتراض عليه وهو قوله‏:‏ ‏{‏يهدي من يشاء‏}‏ يعني من عباده ‏{‏إلى صراط مستقيم‏}‏ يعني إلى جهة الكعبة وهي قبلة إبراهيم عليه السلام‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ الكاف في قوله وكذلك كاف التشبيه جاء لمشبه به وفيه وجوه أحدها أنه معطوف على ما تقدم من قوله في حق إبراهيم‏:‏ ولقد اصطفيناه في الدنيا، وكذلك جعلناكم أمة وسطاً الثاني أنه معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏ وكذلك هديناكم وجعلنا قبلتكم وسطاً بين المشرق والمغرب كذلك جعلناكم أمة وسطاً يعني عدولاً خياراً، وخير الأمور أوسطها، قال زهير‏:‏

هم وسط يرضى الأنام بحكمهم *** إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم

وقيل‏:‏ متوسطة والمعنى أهل دين وسط بين الغلو والتقصير، لأنهما مذمومان في أمر الدين لا كغلو النصارى في عيسى، ولا كتقصير اليهود في الدين وهو تحريفهم وتبديلهم‏.‏ وسبب نزول هذه الآية أن رؤساء اليهود قالوا لمعاذ بن جبل‏:‏ ما ترك محمد قبلتنا إلاّ حسداً وإن قبلتنا قبلة الأنبياء ولقد علم محمد أنّا اعدل الناس فقال معاذ‏:‏ إنا على حق وعدل فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي آخرها، وخيرها وأكرمها على الله تعالى» وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتكونوا شهداء على الناس‏}‏ يعني يوم القيامة أن الرسل قد بلغتهم رسالات ربهم، وقيل‏:‏ إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم شهداء على من ترك الحق من الناس أجمعين ‏{‏ويكون الرسول‏}‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ‏{‏عليكم شهيداً‏}‏ يعني عدلاً مزكياً لكم وذلك أن الله تعالى يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ثم يقول لكفار الأمم‏:‏ ألم يأتكم نذير فينكرون ويقولون ما جاءنا من نذير فيسأل الله الأنبياء عن ذلك فيقولون‏:‏ كذبوا قد بلغناهم فيسألهم البينة وهو أعلم بهم إقامة الحجة فيقولون أمة محمد تشهد لنا فيؤتى بأمة محمد عليه الصلاة والسلام، فيشهدون لهم بأنهم قد بلغوا فتقول الأمم الماضية من أين علموا وإنما أتوا بعدنا‏؟‏ فيسأل هذه الأمة‏.‏ فيقولون‏:‏ أرسلت إلينا رسولاً وأنزلت عليه كتاباً أخبرتنا فيه بتبليغ الرسل وأنت صادق فيما أخبرت ثم يؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بصدقهم ‏(‏خ‏)‏ عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يجاء بنوح وأمته يوم القيامة فيقال له‏:‏ هل بلغت‏؟‏ فيقول نعم أي رب فيسأل أمته هل بلغكم‏؟‏ فيقولون ما جاءنا من نذير فيقال لنوح من يشهد لك‏؟‏ فيقول‏:‏ محمد وأمته فيجاء بكم فتشهدون» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيداً‏}‏ زاد الترمذي وسطاً عدولاً‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وما جعلنا القبلة التي كنت عليها‏}‏ أي وما جعلنا صرفك عن القبلة التي كنت عليها، وهي بيت المقدس، وإنما حذف ذكر الصرف اكتفاء بدلالة اللفظ عليه، وقيل‏:‏ معناه وما جعلنا التي كنت عليها منسوخة وقيل‏:‏ معناه وما جعلنا القبلة التي كنت عليها وهي الكعبة و‏{‏إلاّ لنعلم من يتبع الرسول‏}‏ فإن قلت ما معنى قوله‏:‏ إلاّ لنعلم وهو عالم بالأشياء كلها قبل كونها قلت‏:‏ أراد به العلم الذي يتعلق به الثواب والعقاب فإنه لا يتعلق بما هو عالم به في الغيب إنما يتعلق بما يوجد‏.‏

والمعنى لنعلم الذي يستحق العامل عليه الثواب والعقاب، وقيل‏:‏ العلم هنا بمعنى الرؤية أي لنرى ونميز الرسول في القبلة ممن ينقلب علي عقبيه وقيل‏:‏ معناه إلاّ لتعلم رسلي وحزبي وأوليائي من المؤمنين من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وكان من شان العرب إضافة ما فعله الاتباع إلى الكبير‏.‏ كقولهم‏:‏ فتح عمر العراق وجبى خراجها وإنما فعل ذلك أتباعه عن أمره، وقيل إنما قال إلاّ لنعلم وهو بذلك عالم قبل كونه على وجه الرفق بعباده ومعناه إلاّ لتعلموا، أنتم إذ كنتم جهالاً به قبل كونه بإضافة العلم إلى نفسه رفقاً بعباده المخاطبين‏.‏ وقيل‏:‏ معناه لعلمنا لأنه تعالى سبق في علمه أن تحويل القبلة سبب لهداية قوم وضلالة آخرين ومعنى من يتبع الرسول أي يطيعه في أمر القبلة وتحويلها ‏{‏ممن ينقلب على عقبيه‏}‏ اي يرجع إلى ما كان عليه من الكفر فيرتد، وفي الحديث «إنه لما تحولت القبلة إلى الكعبة ارتد قوم إلى اليهودية وقالوا رجع محمد إلى دين آبائه» ‏{‏وإن كانت‏}‏ أي وقد كانت ‏{‏لكبيرة‏}‏ يعني تولية القبلة ثقيلة شاقة وقيل هي التولية من بيت المقدس إلى الكعبة وقيل الكبيرة هي القبلة التي وجهه إليها قيل التحويل وهي بيت المقدس، وأنث الكبيرة لتأنيث القبلة وقيل‏:‏ لتأنيث التولية ‏{‏إلا على الذين هدى الله‏}‏ يعني الصادقين في اتباع الرسول ‏{‏وما كان الله ليضيع إيمانكم‏}‏ يعني صلاتكم إلى بيت المقدس، وذلك أن حيي بن أخطب وأصحابه من اليهود قالوا للمسلمين‏:‏ أخبرونا عن صلاتكم إلى بيت المقدس إن كانت على هدى فقد تحولتم عنه وإن كانت على ضلاله فقد دنتم الله بها مدة، ومن مات عليها فقد مات على ضلالة فقال المسلمون‏:‏ إنما الهدى فيما أمر الله به والضلالة نهى الله عنه قالوا‏:‏ فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا وكان قد مات قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة أسعد بن زرارة من بني النجار والبراء بن معرور من بني سلمة وكانا من النقباء ورجال آخرون فانطلق عشائرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله قد صرفك الله إلى قبلة إبراهيم فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان الله ليضيع إيمانكم‏}‏ يعني صلاتكم إلى بيت المقدس ‏{‏إن الله بالناس لرؤوف رحيم‏}‏ يعني لا يضيع أجورهم، والرأفة أخص من الرحمة وأرق، وقيل‏:‏ الرأفة أشد من الرحمة‏.‏ وقيل الرأفة والرحمة وقيل‏:‏ في الفرق بين الرأفة والرحمة‏.‏ أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة، وهي دفع المكروه وإزالة الضرر وأما الرحمة فإنها اسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى ويدخل فيه أيضاً جميع الإفضال والإنعام فذكر الله الرأفة، ولا بمعنى أنه لا نضيع أعمالهم ثم ذكر الرحمة ثانياً لأنها أعم وأشمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏144‏]‏

‏{‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏144‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قد نرى تقلب وجهك في السماء‏}‏ سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون بمكة إلى الكعبة، فلما هاجر إلى المدينة أحب أن يستقبل بيت المقدس يتألف بذلك اليهود وقيل إن الله تعالى أمره بذلك ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إياه، إذا صلّى إلى قبلتهم مع ما يجدون من نعته وصفته في التوراة فصلّى إلى بيت المقدس بعد الهجرة ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وكان يحب أن يتوجه إلى الكعبة لأنها قبلة أبيه إبراهيم، وقيل‏:‏ كان يحب ذلك من أجل أن اليهود قالوا‏:‏ يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل‏:‏ وددت لو حولني الله إلى الكعبة فإنها قبلة أبي إبراهيم فقال‏:‏ جبريل صلى الله عليه وسلم إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربك فسل أنت ربك فإنك عند الله بمكان ثم عرج جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء، رجاء أن ينزل جبريل بما يحب من أمر القبلة فأنزل الله عز وجل قد نرى تقلب وجهك في السماء يعني، تردد وجهك وتصرف نظرك في السماء أي إلى جهة السماء، وهذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة فهي متقدمة في المعنى لأنها رأس القصة وأول ما نسخ من أحكام الشرع أمر القبلة ‏{‏فلنولينك‏}‏ أي فلنحولنك ولنصرفنك ‏{‏قبلة‏}‏ أي ولنصرفنك عن بيت المقدس إلى قبلة ‏{‏ترضاها‏}‏ أي تحبها وتميل إليها ‏{‏فول وجهك شطر المسجد الحرام‏}‏ أي نحوه وتلقاءه أراد به الكعبة ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عباس قال‏:‏ لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه ولما خرج ركع ركعتين قبل الكعبة وقال هذه القبلة يعني أن أمر القبلة قد استقر على هذا البيت فلا ينسخ بعد اليوم فصلوا إلى الكعبة أبداً فهي قبلتكم ‏(‏ق‏)‏ عن البراءة بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده، أو قال أخواله من الأنصار وأنه صلّى قبل بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت وأنه صلّى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلّى معه قوم فخرج رجل ممن صلّى معه، فمر على أهل مسجد قباء وهم راكعون فقال أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الكعبة فداروا كما هم قبل البيت وكانت اليهود قد أعجبتهم إذ ذاك أنه يصلّي قبل بيت المقدس، وهي قبلة أهل الكتاب فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك‏.‏

قال البراء في حديثه هذا‏:‏ وأنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان الله ليضيع إيمانكم‏}‏ واختلفت العلماء في وقت تحويل القبلة فقال الأكثرون‏:‏ كان في يوم الاثنين بعد الزوال للنصف من رجب، على رأس سبعة عشر شهراً من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وقيل‏:‏ كان يوم الثلاثاء لثمانية عشر شهراً وقيل‏:‏ كان لستة عشر شهراً وقيل‏:‏ لثلاثة عشر شهراً وقيل‏:‏ نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد بني سلمة وقد صلّى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر، فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب وحول الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، فسمّي ذلك المسجد مسجد القبلتين، ووصل الخبر إلى أهل قباء في صلاة الصبح ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عمر قال‏:‏ بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحيثما كنتم‏}‏ أي من بر أو بحر مشرق أو مغرب ‏{‏فولوا وجوهكم شطره‏}‏ اي نحو البيت وتلقاءه، عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما بين المشرق والمغرب قبلة» اخرجه الترمذي‏.‏ وقال‏:‏ حديث حسن صحيح، قيل‏:‏ أراد بالمشرق مشرق الشتاء في أقصر يوم من السنة وبالمغرب مغرب الصيف في أطول يوم من السنة فمن جعل مغرب الصيف في هذا الوقت عن يمينه ومشرق الشتاء عن يساره كان مستقبلاً للقبلة، وهذا في حق أهل المشرق لأن المشرق الشتوي جنوبي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل، والمغرب الصيفي شمالي متباعد عن خط الاستواء والذي بينهما فقوسها مكة‏.‏ والفرض لمن بمكة في القبلة الميل، والمغرب الصيفي شمالي متباعد عن خط الاستواء والذي بينهما فقوسها مكة‏.‏ والفرض لمن بمكة في القبلة إصابة عين الكعبة، ولمن بعد من مكة إصابة الجهة، ويعرف ذلك بدلائل القبلة وليس هذا موضع ذكرها، ولما تحولت القبلة إلى الكعبة قالت اليهود‏:‏ يا محمد ما هو إلا شيء ابتدعته من تلقاء نفسك فتارة تصلّي إلى بيت المقدس وتارة إلى الكعبة ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي ننتظره فأنزل الله تعالى ‏{‏وإن الذين أوتوا الكتاب‏}‏ يعني اليهود والنصارى ‏{‏ليعلمون أنه الحق من ربهم‏}‏ يعني أمر القبلة وتحويلها إلى الكعبة ثم هددهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما الله بغافل عما يعملون‏}‏ يعني وما أنا بساه عما يفعل هؤلاء اليهود، فأنا أجازيهم عليه في الدنيا والآخرة وقرئ تعملون بالتاء‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد أنكم يا معشر المؤمنين تطلبون مرضاتي وما أنا بغافل عن ثوابكم وجزائكم فأنا أثيبكم على طاعتكم أفضل الثواب، وأجزيكم أحسن الجزاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏145‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏145‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولئن أتيت أوتوا الكتاب‏}‏ يعني اليهود والنصارى ‏{‏بكل آية‏}‏ أي بكل معجزة وقيل‏:‏ بكل حجة وبرهان وذلك بأنهم قالوا‏:‏ ائتنا بآية على ما تقول فأنزل الله تعالى هذه الآية‏:‏ ‏{‏ما تبعوا قبلتك‏}‏ يعني الكعبة ‏{‏وما أنت بتابع قبلتهم‏}‏ يعني أن اليهود تصلي إلى بيت المقدس والنصارى إلى المشرق وأنت يا محمد تصلّي إلى الكعبة‏.‏ فكيف يكون سبيل إلى اتباع قبلة أحد هؤلاء مع اختلاف جهاتها فالزم أنت قبلتك التي أمرت بالصلاة إليها ‏{‏وما بعضهم بتابع قبلة بعض‏}‏ يعني وما اليهود بتابعة قبلة النصارى ولا النصارى بتابعة قبلة اليهود، لأن اليهود والنصارى لا يجتمعون على قبلة واحدة ‏{‏ولئن اتعبت أهواءهم‏}‏ يعني مرادهم ورضاهم لو رجعت إلى قبلتهم ‏{‏من بعد ما جاءك من العلم‏}‏ أي في أمر القبلة ومعناه‏:‏ من بعد ما وصل إليك من العلم بأن اليهود والنصارى مقيمون على باطل، وعناد للحق ‏{‏إنك إذاً لمن الظالمين‏}‏ يعني أنك إن فعلت ذلك كنت بمنزلة من ظلم نفسه وضرها‏.‏ قيل‏:‏ هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة لأنه صلى الله عليه وسلم لا يتبع أهواءهم أبداً‏.‏ وقيل‏:‏ هو خطاب له خاصة فيكون ذلك على سبيل التذكير والتنبيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏146- 148‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏146‏)‏ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏147‏)‏ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏148‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب‏}‏ يعني علماء اليهود والنصارى وقيل‏:‏ أراد به مؤمني أهل الكتاب كعبدالله بن سلام وأصحابه ‏{‏يعرفونه‏}‏ أي يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم معرفة جلية بالوصف المعين الذي يجدونه عندهم ‏{‏كما يعرفون أبناءهم‏}‏ أي لا يشكون فيه ولا تشتبه عليهم كما لا يشتبه عليهم أبناؤهم من أبناء غيرهم، روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لعبدالله بن سلام‏:‏ إن الله أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم‏}‏ فكيف هذه المعرفة‏؟‏ فقال عبدالله‏:‏ يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ومعرفتي بمحمد صلى الله عليه وسلم أشد من معرفتي بابني فقال عمر وكيف ذلك فقال‏:‏ أشهد أنه رسول الله حق من الله وقد نعته الله في كتابنا ولا أدري ما تصنع النساء، فقبل عمر رأس عبدالله وقال‏:‏ وفقك الله با ابن سلام فقد صدقت‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في يعرفونه يعود إلى أمر القبلة والمعنى أن علماء اليهود والنصارى يعرفون أن القبلة التي صرفتك إليها هي قبلة إبراهيم وقبلة الأنبياء قبلك كما يعرفون أبناءهم لا يشكون في ذلك ‏{‏وإن فريقاً منهم‏}‏ أي من علماء أهل الكتاب ‏{‏ليكتمون الحق‏}‏ يعني صفة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل أمر القبلة ‏{‏وهم يعلمون‏}‏ يعني أن كتمان الحق معصية‏.‏ وقيل يعلمون أن صفة محمد صلى الله عليه وسلم مكتوبة عندهم في التوراة والإنجيل وهم مع ذلك يكتمونه ‏{‏الحق‏}‏ أي الذي يكتمونه هو الحق ‏{‏من ربك فلا تكونن من الممترين‏}‏ أي من الشاكين في أن الذين تقدم ذكرهم، علموا صحة نبوتك وقيل‏:‏ يرجع إلى أمر القبلة والمعنى أن بعضهم عاند وكتم الحق فلا تشك في ذلك‏.‏ فإن قلت‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم لم يمتر ولم يشك فما معنى هذا النهي‏؟‏‏.‏ قلت‏:‏ هذا خطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم ولكن المراد غيره والمعنى فلا تشكوا أنتم أيها المؤمنون وقد تقدم نظير هذا‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولكل وجهة‏}‏ أي ولكل أهل ملة قبلة، والوجهة اسم للمتوجه إليه وقيل الوجهة الهيئة والحالة في التوجه إلى القبلة، وقيل في قوله‏:‏ ‏{‏ولكل وجهة‏}‏ إن المراد به جميع المؤمنين، أي ولكل أهل جهة من الآفاق وجهة من الكعبة يصلون إليها‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالوجهة المنهاج والشرع والمعنى ولكل قول شريعة وطريقة لأن الشرائع مصالح للعباد فلهذا اختلفت الشرائع بحسب اختلاف الزمان والأشخاص ‏{‏هو موليها‏}‏ أي مستقبلها والمعنى أن لكل أهل ملة وجهة وجهة هو مول وجهه إليها، وقيل‏:‏ متوليها أي مختارها وقيل‏:‏ إن هو عائد على اسم الله تعالى، والمعنى إن الله موليها إياه، وقرئ مولاّها أي مصروف إليها ‏{‏فاستبقوا الخيرات‏}‏ أي بادروا بالطاعات وقبول الأوامر وفيه حث على المبادرة إلى الأولوية والأفضلية‏.‏ فعلى هذا تكون الآية دليلاً لمذهب الشافعي في أن الوقت أفضل لقوله‏:‏ فاستبقوا الخيرات لأن ظاهر الأمر للوجوب، فإذا لم يتحقق الوجوب فلا أقل من الندب ‏{‏أينما تكونوا‏}‏ يعني أنتم وأهل الكتاب ‏{‏يأت بكم الله جميعاً‏}‏ يعني يوم القيامة فهو وعد لأهل الطاعة بالثواب ووعيد لأهل المعصية بالعقاب ‏{‏إن الله على كل شيء قدير‏}‏ أي على الإعادة بعد الموت والإثابة لأهل الطاعة والعقاب لمستحق العقوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏149- 150‏]‏

‏{‏وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏149‏)‏ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏150‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومن حيث خرجت فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام‏}‏ أي من أي موضع خرجت في سفر وغيره فول وجهك يا محمد قبل المسجد الحرام ونحوه ‏{‏وإنه‏}‏ يعني التوجه إليه ‏{‏للحق من ربك‏}‏ أي الحق الذي لا شك فيه فحافظ عليه ‏{‏وما الله بغافل عما تعملون‏}‏ أي ليس هو بساه عن أعمالكم، ولكنه محصها لكم، وعليكم فيجازيكم بها يوم القيامة ‏{‏ومن حيث خرجت فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره‏}‏ فإن قلت‏:‏ هل في هذا التكرار فائدة‏.‏ قلت‏:‏ فيه فائدة عظيمة جليلة وهي أن هذه الواقعة أول الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا، فدعت الحاجة إلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير وإزالة الشبهة، وإيضاح البيان فحسن التكرار فيهم لنقلهم من جهة إلى جهة ‏{‏لئلا يكون للناس عليكم حجة‏}‏ قيل‏:‏ أراد بالناس أهل الكتاب‏:‏ وقيل‏:‏ هو على العموم وقيل هم قريش واليهود فأما قريش فقالوا‏:‏ رجع محمد إلى الكعبة لأنه علم أنها الحق وأنها قبلة أبيه وسيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا وقالت اليهود‏:‏ لم ينصرف محمد عن بيت المقدس مع علمه أنه حق إلاّ أنه يعمل برأيه فعلى هذا يكون الاستثناء في قوله‏:‏ إلاّ الذين ظلموا منهم متصلاً صحيحاً والمعنى، لا حجة لأحد عليكم إلاّ مشركو قريش واليهود فإنهم يجادلونك الباطل والظلم، وإنما سمي الاحتجاج بالباطل حجة، لأن اشتقاقها من حجه إذا غلبه فكما تكون صحيحة فكذلك تسمى حجة وتكون باطلة قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏حجتهم داحضة عند ربهم‏}‏ وقيل‏:‏ هذا الاستثناء منقطع عن الكلام الأول، ومعناه لكن الذين ظلموا منهم يجادلونك بالباطل كما قال النابغة‏:‏

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب

أي لكن سيوفهم بهن فلول، وليس بعيب وقيل‏:‏ في معنى الآية إن اليهود عرفوا أن الكعبة قبلة إبراهيم ووجدوا في التوراة أن محمداً سيحول إليها فتكون حجتهم أنهم يقولون إن النبي الذي نجده في كتابنا سيحول إلى الكعبة ولم تحول أنت فلما حول الكعبة ذهبت حجتهم ‏{‏إلاّ الذين ظلموا منهم‏}‏ أي إلاّ أن يظلموا فيكتموا ما عرفوا من الحق‏.‏

‏{‏فلا تخشوهم‏}‏ أي فلا تخافوهم في انصرافكم إلى الكعبة في تظاهرهم عليكم بالمجادلة الباطلة فإني وليكم وناصركم، أظهركم عليهم بالحجة والنصرة ‏{‏واخشوني‏}‏ أي احذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم به وفرضته عليكم ‏{‏ولأتم نعمتي عليكم‏}‏ ولكي أتم نعمتي عليكم بهدايتي إلى قبلة إبراهيم لتتم لكم الملة الحنيفية‏.‏ وقيل‏:‏ تمام النعمة الموت على الإسلام ثم دخول الجنة ثم رؤية الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولعلكم تهتدون‏}‏ أي لكي تهتدوا من الضلالة‏.‏ ولعل وعسى من الله واجب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏151- 152‏]‏

‏{‏كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ‏(‏151‏)‏ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ‏(‏152‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏كما أرسلنا فيكم‏}‏ كاف التشبيه تحتاج إلى شيء ترجع إليه فقيل ترجع إلى ما قبلها ومعناه ولأتم نعمتي عليكم كما أرسلنا فيكم وقيل إن إبراهيم قال‏:‏ ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم وقال‏:‏ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، فبعث الله فيهم رسولاً منهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم ووعده إجابة الدعوة الثانية بأن يجعل في ذريته أمة مسلمة، والمعنى كما أجبت دعوته ببعثة الرسول كذلك أجبت دعوته بأن أهديكم لدينه، وأجعلكم مسلمين، وأتم نعمتي عليكم ببيان شرائع الملة الحنيفية‏.‏ وقيل‏:‏ إن الكاف متعلقة بما بعدها وهو قوله‏:‏ ‏{‏فاذكروني أذكركم‏}‏ والمعنى كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم فاذكروني، ووجه التشبيه أن النعمة بالذكر جارية مجرى النعمة بإرسال الرسول، وإن قلنا‏:‏ إنها متعلقة بما قبلها كان وجه التشبيه أن النعمة في أمر القبلة كالنعمة بالرسالة، وفيكم خطاب لأهل مكة والعرب وكذا قوله منكم، وفي إرساله رسولاً منهم نعمة عظيمة عليه لما فيه من الشرف لهم ولأن المعروف من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير فكان بعثة الرسول منهم وفيهم أقرب إلى قبول قوله والانقياد له، والمعنى كما أرسلنا فيكم في معشر العرب ‏{‏رسولاً منكم‏}‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ‏{‏يتلو عليكم آياتنا‏}‏ يعني القرآن وذلك من أعظم النعم لأنه معجزة باقية على الدهر ‏{‏ويزكيكم‏}‏ أي ويطهركم من دنس الشرك والذنوب وقيل يعلمكم ما إذا فعلتموه صرتم أذكياء مثل محاسن الأخلاق ومكارم الأفعال ‏{‏ويعلمكم الكتاب‏}‏ يعني أحكام الكتاب وهو القرآن وقيل إن التعليم غير التلاوة فليس بتكرار ‏{‏والحكمة‏}‏ يعني السنة والفقه في الدين ‏{‏ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون‏}‏ يعني يعلمكم من أخبار الأمم الماضية والقرون الخالية وقصص الأنبياء والخبر عن الحوادث المستقبلية مما لم تكونوا تعلمون وذلك قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏فاذكروني‏}‏ قيل الذكر يكون باللسان، وهو أن يسبحه ويحمده ويمجده ونحو ذلك من الأذكار، ويكون القلب وهو أن يتفكر في عظمة الله تعالى، وفي الدلائل الدالة على وحدانيته، ويكون بالجوارح وهو أن تكون مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها، مثل الصلاة وسائر الطاعات التي للجوارح فيها فعل ‏{‏أذكركم‏}‏ أي بالثواب والرضا عنكم قال ابن عباس‏:‏ اذكروني بطاعتي أذكركم بمعونتي وقيل‏:‏ اذكروني في النعمة والرخاء أذكركم في الشدة والبلاء، وقال أهل المعاني‏:‏ اذكروني بالتوحيد والإيمان‏:‏ أذكركم بالجنان والرضوان‏.‏ وقيل‏:‏ اذكروني بالإخلاص أذكركم بالخلاص اذكروني بالقلوب، أذكركم بغفران الذنوب‏.‏ اذكروني بالدعاء أذكركم بالعطاء ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يقول الله عز وجل‏:‏ أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً وإن تقرب إليَّ ذراعاً، تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة»

قوله عز وجل‏:‏ «أنا عند ظن عبدي بي» قيل‏:‏ معناه بالغفران إذا استغفر وبالقبول والإجابة، إذا دعا، وبالكفاية إذا طلب الكفاية‏.‏ وقيل‏:‏ المراد منه تحقيق الرجاء وتأميل العفو وهذا أصح قوله‏:‏ وأنا معه إذا ذكرني يعني بالرحمة والتوفيق والهداية والإعانة‏.‏ وقوله‏:‏ «فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي»‏.‏ والنفس في اللغة لها معان‏:‏ منها ذات الشيء والله تعالى له ذات حقيقة‏.‏ ومنها الغيب فعلى هذا يكون المعنى فإن ذكرني خالياً ذكرته بالإثابة والمجازاة مما لا يطلع عليه أحد‏.‏ قوله‏:‏ «وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه» الملأ أشراف الناس وعظماؤهم الذين يرجع إلى رأيهم وهذا مما استدلت به المعتزلة ومن وافقهم على تفضيل الملائكة على الأنبياء‏.‏ وأجيب عنه بأن الذكر يكون غالباً يكون في جماعة لا نبي فيهم‏.‏ قوله‏:‏ «وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً إلخ» وهذا من أحاديث الصفات ويستحيل إرادة ظاهره فلا بد من التأويل فعلى هذا يكون ذكر الشبر والذراع والباع والمشي والهرولة استعارة، ومجازاً فيكون المراد بقرب العبد من الله تعالى القرب بالذكر والطاعة والعمل الصالح والمراد بقرب الله من العبد قرب نعمه وألطافه وبره وكرمه وإحسانه إليه، وفيض مواهبه ورحمته عليه والمعنى كلما زاد بالطاعة والذكر زدت بالبر والإحسان وإن أتاني في طاعتي أتيته هرولة أي صببت عليه الرحمة صباً وسبقته بها ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يقول الله عز وجل‏:‏ «أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه» ‏(‏ق‏)‏ عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت» ‏(‏م‏)‏ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله قال الذاكرون الله كثيراً والذاكرات» المفردون الذين ذهب القرن الذي كانوا فيه، وبقوا وهم يذكرون الله تعالى‏.‏ ويقال‏:‏ تفرد الرجل إذا تفقه واعتزل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واشكروا لي‏}‏ يعني بالطاعة ‏{‏ولا تكفرون‏}‏ أي بالمعصية فمن أطاع الله فقد شكره ومن عصاه فقد كفره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏153- 154‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏153‏)‏ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ‏(‏154‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة‏}‏ إنما خصهما بذلك لما فيهما من المعونة على العبادات؛ أما الصبر فهو حبس النفس على احتمال المكاره في ذات الله وتوطينها على تحمل المشاق في العبادات، وسائر الطاعات وتجنب الجزع وتجنب المحظورات ومن الناس من حمل الصبر على الصوم وفسره به، ومنهم من حمله على الجهاد وأما الاستعانة بالصلاة فلأنها تجب أن تفعل على طريق الخضوع والتذلل للمعبود والإخلاص له‏.‏ وقيلك استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض، وبالصلوات الخمس في مواقيتها على تحميص الذنوب ‏{‏إن الله مع الصابرين‏}‏ أي بالعون والنصر ‏{‏ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات‏}‏ نزلت فيمن قتل ببدر من المسلمين وكانوا أربعة عشر رجلاً ستة من المهاجرين وهم‏:‏ عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب وعمير بن أبي وقاص بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة الزهري أخو سعد بن أبي وقاص وذو الشمالين واسمه عمير بن عبد عمرو بن العاص بن نضلة بن عمرو بن خزاعة ثم بني غبشان وعاقل بن البكير من بني سعد بن ليث بن كنانة ومهجع مولى لعمر بن الخطاب، وصفوان بن بيضاء من بني الحارث بن فهر ومن الأنصار ثمانية، وهم سعد بن خيثمة ومبشر بن عبد بن المنذر، ويزيد بن الحارث بن قيس بن فسحم وعمير بن الحمام ورافع بن المعلى وحارثة بن سراقة، وعوف ومعوذ ابنا الحارث بن رفاعة بن سواد وهما ابنا عفراء وهي أمهما، كان الناس يقولون لمن قتل في سبيل الله مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذاتها فأنزل الله تعالى هذا الآية، وقيل‏:‏ إن الكفار والمنافقين قالوا‏:‏ إن الناس يقتلون أنفسهم ظلماً لمرضاة محمد من غير فائدة فنزلت هذا الاية وأخبر أن من قتل في سبيل الله فإنه حي بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل أحياء‏}‏ وإنما أحياهم الله عز وجل في الوقت لإيصال الثواب إليهم‏.‏ وعن الحسن أن الشهداء أحياء عند الله تعالى تعرض أرزاقهم على أرواحهم، ويصل إليهم الروح والريحان والفرح كما تعرض النار عى أرواح آل فرعون غدوة وعشياً فيصل إليهم، الألم والوجع ففيه دليل على أن المطيعين لله يصل إليهم ثوابهم وهم في قبورهم في البرزخ وكذا العصاة يعذبون في قبورهم‏.‏ فإن قلت‏:‏ نحن نراهم موتى فما معنى قوله بل أحياء وما وجه النهي، في قوله ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات‏.‏ قلت‏:‏ معناه لا تقولوا أموات بمنزلة غيرهم من الأموات بل هم أحياء تصل أرواحهم إلى الجنان كما ورد، «إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة» فهم أحياء من هذه الجهة، وإن كانوا أمواتاً من جهة خروج الروح من أجسادهم، وجواب آخر وهو أنهم أحياء عند الله تعالى في عالم الغيب، لأنهم صاروا إلى الآخرة فنحن لا نشاهدهم كذلك ويدل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن لا تشعرون‏}‏ أي لا ترونهم أحياء فتعلموا ذلك حقيقة، وإنما تعلمون ذلك بإخباري إياكم به‏.‏

فإن قلت‏:‏ ليس سائر المطيعين من المسلمين لله يصل إليهم من نعيم الجنة في قبورهم فلم خصص الشهداء بالذكر‏؟‏‏.‏ قلت‏:‏ إنما خصهم لأن الشهداء فضلوا على غيرهم بمزيد النعيم وهو أنهم يرزقون من مطاعم الجنة ومآكلها وغيرهم ينعمون بما دون ذلك‏.‏ وجواب آخر أنه رد لقول من قال‏:‏ إن من قتل في سبيل الله قد مات وذهب عنه نعيم الدنيا ولذاتها فاخبر الله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏بل أحياء‏}‏ بأنهم في نعيم دائم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏155- 156‏]‏

‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ‏(‏155‏)‏ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ‏(‏156‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولنبلونكم‏}‏ أي لنختبرنكم يا أمة محمد واللام جواب القسم تقديره، والله لنبلونكم، والابتلاء لإظهار الطائع من العاصي لا ليعلم شيئاً، لم يكن عالماً به فإنه سبحانه وتعالى عالم بجميع الأشياء قبل كونها وحدوثها ‏{‏بشيء‏}‏ إنما قال‏:‏ بشيء ولم يقل بأشياء لئلا يوهم أن أشياء تدل على ضروب من الخوف‏.‏ وكذا الباقي فلما قال بشيء كان التقدير بشيء من الخوف، وبشيء من الجوع‏.‏ وقيل‏:‏ معناه بشيء قليل من هذه الأشياء ‏{‏من الخوف‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني خوف العدو والخوف توقع مكروه يحصل منه ألم في القلب ‏{‏والجوع‏}‏ يعني القحط وتعذر حصول القوت ‏{‏ونقص من الأموال‏}‏ يعني بالهلاك والخسران ‏{‏والأنفس‏}‏ أي ونقص من الأنفس بالموت أو القتل ‏{‏والثمرات‏}‏ يعني الجوائح في الثمار وقيل‏:‏ قد يكون بالجدب أيضاً وبترك العمل والعمارة في الأشجار‏.‏ وحكي عن الشافعي رضي الله عنه في تفسير هذه الآية قال‏:‏ الخوف خوف الله تعالى والجوع صيام شهر رمضان ونقص من الأموال يعني إخراج الزكاة والصدقات والأنفس يعني بالأمراض، والثمرات يعني موت الأولاد، لأن الولد ثمرة القلب‏.‏ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته أقبضتم ولد عبدي‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ أقبضتم ثمرة فؤاده‏؟‏ قالوا نعم قال فماذا قال‏؟‏ قالوا‏:‏ حمدك واسترجع قال‏:‏ ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد» أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن‏.‏ فإن قلت ما الحكمة في تقديم تعريف هذ الابتلاء في قوله‏:‏ ولنبلونكم‏.‏ قلت فيه حكم‏:‏ منها أن العبد إذا علم أنه مبتلي بشيء، وطن نفسه على الصبر، فإذا نزل به ذلك البلاء لم يجزع‏.‏ ومنها أن الكفار إذا شاهدوا المؤمنين مقيمين على دينهم ثابتين عند نزول البلاء صابرين له علموا بذلك صحة الدين فيدعوهم ذلك إلى متابعته والدخول فيه‏.‏ ومنها أن الله تعالى أخبر بهذا الابتلاء، قبل وقوعه فإذا وقع كان ذلك إخباراً عن غيب فيكون معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم ومنها أن المنافقين إنما أظهروا الإيمان طمعاً في المال وسعة الرزق من الغنائم فلما أخبر الله أنه مبتلي عباده فعند ذلك تميز المؤمن من المنافق والصادق من الكاذب، ومنها أن الإنسان في حال الابتلاء أشد إخلاصاً لله منه في حال الرخاء، فإذا علم أنه مبتلي دام على التضرع والابتهال إلى الله تعالى لينجيه مما عسى أن ينزل به من البلاء ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وبشر الصابرين‏}‏ يعني عند نزول البلاء والمعنى وبشر يا محمد الصابرين على امتحاني بما أمتحنهم به من الشدائد والمكاره، ثم وصفهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين إذا أصابتهم مصيبة‏}‏ أي نائبة وابتلاء ‏{‏قالوا إنا لله‏}‏ أي عبيداً وملكاً ‏{‏وإنا إليه راجعون‏}‏ يعني في الآخرة ‏(‏م‏)‏ عن أم سلمة قالت‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏

«ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلاّ آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها» قيل‏:‏ ما أعطي أحد ما أعطيت هذه الأمة يعني الاسترجاع عند المصيبة ولو أعطيها أحد لأعطى يعقوب عليه السلام ألا تسمع إلى قوله عند فقد يوسف ‏{‏يا أسفي على يوسف‏}‏ وقيل‏:‏ في قول العبد إنا لله وإنا إليه راجعون تفويض منه إلى الله وأنه راض بكل ما نزل به من المصائب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏157- 157‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ يعني من هذه صفتهم ‏{‏عليهم صلوات من ربهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي مغفرة من ربهم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهم صل على آل أبي أوفى» أي أغفر لهم وأرحمهم وإنما جمع الصلوات لأنه عنى مغفرة، بعد مغفرة ورحمة بعد رحمة ‏{‏ورحمة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ونعمة والرحمة من الله إنعامه وإفضاله وإحسانه، ومن الآدميين رقة وتعطف‏.‏ وقيل‏:‏ إنما ذكرت الرحمة بعد الصلوات لأن الصلاة من الله الرحمة لاتساع المعنى واتساع اللفظ وتفعل ذلك العرب كثيراً، إذا اختلف اللفظ، واتفق المعنى، وقيل‏:‏ كررهما للتأكيد أي عليهم رحمة بعد رحمة ‏{‏وأولئك هم المهتدون‏}‏ يعني إلى الاسترجاع‏.‏ وقيل‏:‏ إلى الجنة الفائزون بالثواب‏.‏ وقيل‏:‏ المهتدون إلى الحق والصواب‏.‏ وقال عمر بن الخطاب‏:‏ نعم العدلان ونعمت العلاوة فالعدلان الصلاة والرحمة والعلاوة الهداية‏.‏

فصل‏:‏ في ذكر أحاديث وردت في ثواب أهل البلاء وأجر الصابرين

‏(‏خ‏)‏ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من يرد الله به خيراً يصب منه» يعني يبتليه بالمصائب حتى يأجره على ذلك ‏(‏ق‏)‏ عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلاّ كفر الله عنه بها خطاياه» النصب التعب والإعياء والوصب المرض ‏(‏ق‏)‏ عن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلاّ حط الله عنه من سيئاته كما تحط الشجرة ورقها» ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تفيئه ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة لا تهتز حتى تحصد» الأرزة شجر معروف بالشام ويعرف في العراق، ومصر بالصنوبر والصنوبر ثمرة الأرزة وقيل‏:‏ الأرزة الثابتة في الأرض‏.‏ عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا أراد الله بعبد خيراً عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد الله بعبدا شراً أمسك عنه حتى يوافي يوم القيامة» وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» أخرجه الترمذي‏.‏ وله عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض» وله عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة» وقال حديث حسن صحيح ‏(‏خ‏)‏ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قال الله تعالى‏:‏ ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلاّ الجنة عن سعد بن أبي وقاص وقال‏:‏ قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء قال‏:‏ الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على دينه فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة هون عليه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض، وما عليه خطيئة» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن‏.‏